الثلاثاء، 22 يوليو 2008

عينّ على الغربة



عّينْ على الغرّبة
سرهات باعدري

المشهد ألآول:ـــ

وطئت أقدامه أرض ألآحلام بعد أن ذاق مرارة الطريق للوصل الى حلمه المنشود الى موطيء الحرية الى
بيئة تختلف أختلافاًَ كلياًَ عن سابقتها.أستقطبت بصيرته ملامح من المتغيرات توحي للوهلة ألآولى بالرقي
الحضاري القائم في فردوسه المستقبلي الموعود ألآ وهي أوربا، يحّدق بعيونه ويتأنى بتطلعاته في المباني وفي الشخوص والمواصلات الحديثة والمناظر الطبيعية، يّكادْ لايصّدق بصيرته للوهلة ألآولى ويبدوا لهّ بأنه حلماًَ من أحلام اليقضة تراودّ مخيلته، ولكن بعد برهة وجيزة يستفيقّ من غيبوبته المؤقتة ويؤكد له الصواب نعم..! هذه حقيقة أنا ألآن في قلب أوربا في جمهورية الآمان والحرية والمساواة دولة العدل وحقوق ألآنسان ليس للمفخخات وألآرهاب حيزأ للوجود فيه، والتيار الكهربائي لا يجدّ له ألآنقطاع صيفاًَ كما هو في الشتاء . فنمّ رغيداًَ وقرّير العين يا أيها ألقادم من بلاد الغربة البعيدة التي لم تذق فيه راحة النوم في دفء أحضانها. و في الصباح الرباح لربما كنت في بلادك تصحوا من على صياح الديكة مثلما وردت في قصص الف ليلة وليلة وبصحبة شهريار تلك المعجزة التي جعلت بغداد وصيتها الآدبي والثقافي معروفاًَ لدى القاصي والداني. بغداد الشعراء والصور’ ذهب الزمان وضوعه العطرّ يا مكملة ألآعراس يغسل وجهك القمر. في ألآمس كنتّ
عروسة الشعراء ولوحة القصائد، واليوم أصبحت المحاصصة قدركْ وأستبيحّت الدماء نبعّ دجلتك اليانعة.
بعد مكوثة الليلة ألآولى في سكن أيواء اللآجئين(الهايم) مثلما هومتعارف عليه هنا، أستيقظ في الصباح على
طرقات هادئة طرقت من على باب الحجرة التي خلد فيها في نوماًَ عميقاًَ وهانيء من جراء التعّب الذي أصابه من مشقة الرحيل وفي باديء ألآمر لم يستفيق ، وبعد طرقات أخرى متتالية أستفاق من النوم وفتح الباب على عجلة من أمره وهو ما يزال يفرك بعينيه اللذان ما برحْ النعاس لم يفارقهما وأذا بمسؤولة السكن تقف أمام الباب وهي شقراء وذي قواماًَ رشيق وأردفته مصافحة( موكن) يا لها من مفردة غريبة ومن ثم أوعزته
بأن يرافقها الى الدور ألآرضي حيث مطعم( الهايم) وحال أنتهاء وجبة الفطور الصباحي أستكملت ألآجراءات اللآزمة لطلب اللجوء وتمّ تحديد بعد يومين موعد المحاكمة وفي غضون أسابيع قليلة أستلم جواباًَ عن طرق البريد الوارد الى محل أقامته وبدء يتمعّن في محتوياتها لكن بدون جدوى حيث لم يحالفه الحظ ّ في معرفة مضمونها فأضطر بأن يبحث على من يساعده لفكّ رموز هذه الرسالة المعقدة التي تحدّ من مصيره الغائب. في نهاية ألمطاف وجدّ من يسعفه من هذه المعظلة ولكن لسوء الحظ فأن الرياح هبت بعكس أتجاه السفن وقد كان جوابه يحمل بين طياته أجابة سلبية حيث رفض طلبه يا للهول.! فأنها مصيبة ما منها مصيبة حيث ليس بمقدوره أن يخطوا خطوة واحدة أكثر من المسافة المسموحة له وأن تجاوزها من دون أذناًَ عليه أن يتحمل العواقب القانونية، اليس هذا بمثابة معتقلاًَ ولكن جرى تعديلاًَ في هيئته شيءاًَ ما . كذالك لا يسمح له العمل ويتزود ببعض الموئن المعاشية لسدّ رمقه ألآسبوعي ويتقاضى شهرياًَ مصرفاًَ ما يقارب 40 يورو فقط.

المشهد الثاني: ــ

بعد أن ضاقت به السّبلْ و ذاقّ طعم سنوات الغربة بعيدأ عن الديار وألاهل وألآصدقاء و عن وفلذات الكبدّ وبراعمه اليانعة، والشيء ألآمرّ من العلقم من هذا وذاك تلك ألآنسانة التي أخذت حيزاًَ ومكانة متميزة في فؤاده التي كادّت بأن لاتفارق مخيلته الليل بعتمته والنهار بمشقته، ولكن تدريجياًَ وبمرور ألآيام العصيبة بدأت ملامح الحبيبة أيضاًَ يأخذّ منحاًَ ومنعطفاًَ أخراًَ و بدء يمحوا من الذاكرة و لم يبقى عالقاًَ في مخيلته سوا تلك النبرات من صوتها الذي كاد أن يكون نغمته الموسيقية الشجية والذي ما برح ّيصوغ سماعه من خلال ألآتصال الهاتفي الذي كان يجري بينهما بين الفينة وألآخرى حيث تكاليف الهواتف ثمينة المبلغ ومكلفة . من كثرة ما كان يجوب ويخطوا وبصورة لآأرادية حول معالم تلك القرية الصغيرة كادتّ خبرته تفوق خبرة العاملين في دوائرالمساحة هنالك ، كان يقضي أسعد أوقاته و أجملها في حديقة القرية التي كان يتوسطها بركة من الماء التي تعّج بالبطّ والطيور المائية ويغمّر قاعها ألاسماك ولكنها ممنوعة من ألاصطياد ووضعت للزينة فقط ، كانت تلك ألآريكة الخشبية المطلة على البركة مجلسه ومقعده المفضل حيث كان يقضي أكثر أوقاته جالساًَ ويتأمل بسكينة ويحيط من حوله أشجاراًَ باسقة وافرة الظلّ ، ولكن ما الجدوى من تلك الظلال الوافرة أذا لم تحجب حرارة الشمس و ذالك لندرة سطوعها في ألآفق حيث هطول ألامطار لا يتوقف على مدار المواسم، والطقس هنا غير موثقاًَ فيه حسب شهادة هتلر ذاته. وذات يوماًَ وفي الصباح الباكر خرج الى جولته التفقدية المعتادة بعد أنتظاراًَ مملّ وشاق وفي طريق العودة الى( الهايم) أبلغه أحد ألآصدقاء الذين كانت حالته لا يحسدّ عليها لآنه كان في وضعاًَ أتعس بكثير من وضعه ، وأبلغه بأن لديه رسالة في حاوية الرسائل اليومية
فتنفس تنفس الصعداء وأسرع من خطواته المعتادة حيث سلك طريقا مختصراًَ و كان معتاداًَ أن يأخذ طريقاًَ أطول الى حيث (الهائم) المقيم فية وذالك لهدر المزيد من الوقت الفائض . أستلم الرسالة المصيرية ووضعها في يده وحينها شعر بأنه يمتلك فانوس علاء الدين السحري الذي سوف يقلب له جميع الموازين رأساًَ عن عقبّ وتنقذه من الحالة التي يرثى لها فتحها بسرعة حيث كادّ أن يمزق محتواها من العجلة المفرطة وظل يتمعاًَ فيها لكنه لن يستوعبها على ما يبدوا بأن المحاضرات الذي أخذها في دورة تعليم اللغة المانية في فترة مكوثه في( الهايم) لم تكن كفيلة لتأهله بقراءة الرسائل ولم يكن قدّ حالفه الحظ في بلاده بأن ينخرط في الدراسة حيث قضى المسكين حياته منذ الصغر يسرح ويرعى الماعز وهنا تبدء المعادلة الصعبة هنا يبدء الآصطدام الحضاري كيف..؟ يتمكن أنساناًَ يصعب عليه صعوبة جمةّ من تدوين رموز و أحرف أسمه ليندمج في مجتمعاًَ عصري واكب الرقي والتطور حيث أصبح الزواج فيه عن طريق ألآنترنيت والطلاق عن طريق أس، ام، أس كما يقال، على أية حال وفي نهاية المطاف أقرّ له حق اللجوء ولكن هل...؟ يا تّرى أنها نهاية المأساة أم بداية الفاجعة...!! أضطرّ بأن يبحث عن عمل عسى ولعل بأن يجمع شمل عائلته التي طال الفراق بينهما. وأين..؟ بأمكانه أيجاد عملاًَ أّذ لا يجدّ غير لغة ألآشارة وبعد فترة وجيزة أتيح له العمل في أحدى مطاعم الوجبات السريعة( المكودناس) حيث أخذت هذه المطاعم وكذالك مطاعم( بوركة كنك) نطاقاًَ شمولياًَ ومجالاًَ رحباًَ ليجدّ المغترب فرصة عملاًَ له في أطارها و المنتشرة بنطاق واسع هنا. على ما يبدوا بأن هذه المطاعم باتت بديلاًَ عن عمل تلك النوادي ومحال بيع المشروبات الكحولية التي كانت منتشرة في العراق بفترة ما و كانت الهيمنة ألآيزيدية مسيطرة عليها. أذاًَ من النادل في الوطن الى الخادم في الغربة هذا هو القدر المحتوم الذي يرتقب ألآيزيدي أين ما حلّ الدهرّ به. وبأي أتجاهًَ ترميه العاصفة وغدر الزمان...!

المشهد الثالث وألآخير:ــ

بعد جهداًَ شاق وعمل دؤوب وصبر أيوب وهدر أموال طائلة وطئت أقدام العائلة الكريمة أرض الميعاد وكان أشتياقهم الى ديار الغربة أكثر بكثيراًَ من المغترب الذي طال فراقهما ألآليم، من كثرة ما روي لهم عن الحياة السعيدة هنا وما شاهدوه من خلال أفلام الفديو المرسلة اليهم والتي تضخم الحدث أكبر من حجمه الحقيقي
حيث ذهب بالبعض أن يوثق أشرطة وهو يستلم المبالغ من أجهزة النقود المثبتة على الجدران الخارجية للبنوك ويقول ما عليكم ألآ أن تضغطوا على الرقم السري الخاص بكم وألآنتظار لبرهة حتى تنهال عليكم
النقود بوابل من (اليورو)في حين ان قروض البنوك أثقلت من كاهلهم ويصعب عليهم دفع ما رتب عليهم.
وعندما تعيش الواقع تجد النقيض في ذالك، فبمقدور أي عائلة هنا تعيش لمدة شهرين فقط بمعزل وبدون المساعدات المقدمة من الرعاية ألآجتماعية بالنسبة الذين يعيشون على هذه المساعدات أما أذا تأخر بالنسبة الى العاملين شهراًَ واحداًَ فقط ( فونون كيلد) اي المساعدة المقدمة من قبل دائرة السكن فتحصل الكارثة. وأي سعادة مزيفة نطرزها نحن من حولنا ونحّيكها بخيوطاًَمن القناعة المبهمة، من منا يتجرىء بأن لا يضع يده على الجانب ألآيسرمن صدره حيث القلب عندما يحاول فتح صندوق الرسائل التي باتت بمثابة قنبلة موقوتة في الصباح ويتردد لمرات عديدة ثم يبدء بفتحها وأذا بالمفاجئة والهدية التي جلبت له ساعي البريد.
أن الغربة تقودنا من على متنّ سفينتها الى غداًَ مجهول والى عرض محيطاًَ هائجاًَ بموجه، ويرسى بنا لنقارع تلك الفوارق ألآجتماعية الغير المتكافيئة والعادات والتقاليد المختلفة من جميع مناحي الحياة حيث باتت السيطرة على الوضع أشبه بالمستحيل لمعالجة الوضع المتردي وللمحافظة على ألآجيال من الضياع والتهلكة
فالجميع هنا يعيشون تحت ضغوط نفسية وأواصر العلاقات ألآجتماعية بدءت ببرود تأخذ منحنياًَ أخراًَ نحو ألآدنى ليسجل هشاشة مقارنة ما كان يتميز به في السابق من الروابط المتينة التي كانت تربط المغتربين معاًَ.
وأكبر برهان على ذالك حالات الطلاق التي تحدث بين المتزوجين الجدد حيث أزدات بشكل كبير جداًَ نسبياًَ
أن ما يبعث في النفس من عدم المسرة واليأس والقنوط في ديار الغربة وبالرغم من مأسيها التي لا تطاق و الذي زاد من طيننا بلة كما يقال ذالك النهج الذي يتبعه البعض في المناسبات العديدة سواء كانت مجالس العزاء أو فرح، وتلك المناقشات غير المستجدية والنافعة التي تطغي على أجواء المناسبة والتي تعكر صفوها وأستخدامهم الرموز السياسية في المناسبات الدينية بدلاًَ من التفكير في أيجاد مخرجاًَ للتخفيف من هموم الغربة وكاهلها المتعب و توعية ألآطفال وترشيدهم بالمعلومة التي ترسخ القيم والمباديء، بلا أدنى شك فهم يتحملون المسؤلية التأريخة التي تؤدي الى ضياع هذه ألآجيال في الغربة مقابل حفنة من ألاوراق الخضراء.
والشيء المراد ذكره هنا أّذا كنتم مؤهلياًَ لرواج أفكاركم السياسية أما كان من ألآجدر بكم بأن تستخدمون ألآرضية المناسبة في هذه الطروحات والساحة تناديكم لكي تفعلون ما تشاءون وكما يقول المثل ألآيزيدي:
(كسي دستي ميرى قنج نكرتيا) ولكن شريطة أن تعرفوا ماذا قدمتوا لهؤلاء ألآبرياءفي وطن ألآم أرض ألآباء وألآجداد من المكتسبات والحقوق لكي تأتون اليوم لتعيدوا صياغة هذه ألآفكار هنا في الغربة وتثقلون من كاهل ألآيزيدي الذي لا حول له ولا قوة، ذالك ألآنسان الذي ترك موطنه ألآصلي وهذا لم يحصل بمغض أرادته وبشكل أعتباطي وعشوائي بل نتيجة ضغوط معينة قادته الى سلك طريق الغربة. فأذا شعر ألآيزيدي
بالغربة في وطنه وراوده أحساس بأنه مواطن من الدرجة ألآدنى وأصبح أمره مرهوناًَ بأيدي غير أمينة. والى متى يبقى ألآيزيدي متسولاًَ لحقوقه ويستجد من غيره المناصب لكي يشفقون علية بحقيبة وزارية معطلة
عندما نودع أرضنا ونشد الرحال الى بلاد الغربة في هذه الحالة نفقد الخيط الذي كان يربطنا بذالك ألآرض.
وألآندماج في المجتمع الغربي الذي قطعاًَ أشواطاًَ لا بلّ قروناًَ من الرقي الثقافي والتفوق التكنولوجي فيولد لدينا نوعاًَ من عدم التوازن الذي يؤدي في المحصلة النهاية الى ألآنصهار ولا سيما نحن لا نجد تعمقاًَ فعلياًَ
في مضمار هذه الثقافة ونبقى معلقياًَ في قشورها الغربية و لا ندرك بأنفسنا ألا قد فقدنا العصفور أيضاًَ.
ويكاد ّحظنا لا يكون أحسن حال من غيبة أمل البدوي الذي رجع الى أهله بخفي حنين حيث يقال بأن بدوياًَ
ذهب الى أسكافي أسمه حنين أراد أن يتبضع منه خفي من ألآحذية لزوجته فعرض ألآسكافي سعراًَ أغضب البدوي ولم يجري بينهم عملية البيع والشراء و قذف البدوي ألآسكافي ببعض ألآلفاظ النابية وخرج من محله فأراد الثاني ألآنتقام من البدوي، ونصب له كيداًَ ليوقعه فيه فسلك طريقاًَ مختصراًَ أمام البدوي ووضع بأحدى الخفي في طريقه وذهب مسافة معينة أخرى ورمي بالخفى الثانية وعندما رأى البدوي الخفى ألآولى قال في نفسه أنها أشبه ما تكون بتلك الخفى التي شاهدتها عند حنين ولكن ماذا أفعل بالواحدة فقط ، وسار مشواراًَ أخراًَ فرأى الخفى الثانية فما كان منه ألآ أن يترك بعيره و صبيه من دون حراسة ليأخذ الخفى ألآولى وعندما عاد لم يرى البعير والصبي وأذا بالآسكافي قد أخذهما ولما عاد سألته زوجته ماذا تحمل لنا يا أيها الرجل فما كان من البدوي ألآ أن يجيبها لقد عدت اليك بخفي حنين. ولكن لا نعلم نحن ماذا سوف نجني من هذه الغربة بعد ضياعنا كل شيء وليس أي شيء وهل.. سوف نكون أحسن حظاًَ منه هذا ما ستكشفه ألآيام لنا غدا...!!

sarhathussein@yahoo.de



ليست هناك تعليقات: